التباعد الاجتماعي يشكّل المستقبل ما بعد كورونا
خلال العقد الماضي كانت شعارات التواصل الاجتماعي وشبكاتها هي المهيمنة على حياة الناس، ومصدر الدخل الرئيس لكثير من ريادي الأعمال، الذين عملوا على تغيير وجه العمل حول العالم، ابتداء من الإعلام بمختلف أشكاله، التسويق الرقمي وعالم المؤثرين، خدمات التجارة الالكترونية وتطبيقاتها، وصولاً إلى الدبلوماسية الرقمية والتغريدات التي تهز العالم، وغيرها الكثير. في الآونة الأخيرة أصبح “التباعد الاجتماعي” المصطلح الأكثر انتشاراً على وسائل التواصل الاجتماعي وشاشات التلفزة وألسنة المسؤولين، باعتباره الطريقة الوحيدة لإنقاذ البشرية من جائحة فيروس كورونا COVID-19. فما الذي تخبؤه لنا السنوات القادمة من تداعيات التباعد الاجتماعي؟!
أظهر انتشار الفيروس هشاشة معظم أنظمة دول العالم، وأن قادتها ليسوا على قدر كاف من المسؤولية، وانعدام الخبرة أو القدرة على التعامل مع انتشار الوباءات بكفاءة، وبان جلياً كم أن دورة أخذ القرار تمر ببيروقراطية قاتلة كانت سبباً في تأخر اتخاذ أي خطوات فاعلة في أوقاتها المناسبة، مما أدى إلى زيادة انتشار الوباء بسرعة مخفية. لم تجد الحكومات طريقة للحد من انتشار فيروس كورونا إلا دعوة أو إجبار مواطنيها على البقاء في منازلهم لفترات غير محددة، من خلال فرض الحجر على مدن كاملة، أو إيقاف جميع الأنشطة والتجمعات، بدءاً بتحويل التعليم من المدارس والجامعات لأنظمة التعليم عن بعد، وانتقال الكثير من الموظفين للعمل من منازلهم، وإغلاق أماكن التجمعات والترفيه، والحد من الصلوات الجامعة في المساجد، وإيقاف الأعراس والاحتفالات وحتى تجمعات العزاء، وحظر السفر لدول كثيرة بإيقاف الطيران وإغلاق الحدود، وأصبح من غير الممكن أن تصافح أحداً، أو تتعامل مع أي إنسان إلا عن بُعد، خشية أن ينتقل إليك الفيروس وتمسي طريح الفراش، خائفاً من أن لا تجد مكاناً يسعك في بُنية النظام الصحي، ويكون مصيرك الموت وحيداً!
أسابيع قليلة وسيخف انتشار الفيروس وربما يختفي أو يصبح نوعاً من الانفلونزا الموسمية التي سنعتاد عليها، الكثير يريد العودة بسرعة لحياته الطبيعية التي اعتادها، ولكن الحقيقة أن الحياة بعد كورونا لن تكون كما كانت قبلها، الكثير من التغييرات ستطرأ خلال الأشهر والسنوات القادمة، وبعضها سيكون مليئاً بالتحديات سواء على الحكومات أو الشعوب، وسيتغير بدرجات متفاوتة شكل العمل والتعليم والسفر والتسوق والصحة والعلاقات الاجتماعية والأسرية.
العيش ما بعد جائحة الكورونا
سياسياً واقتصادياً
هل تخيلتم من قبل أن تقوم الشعوب بالضغط على الحكومات لفرض حظر التجوال وإلغاء التجمعات؟ نعم، يحدث هذا ولأول مرة في التاريخ المعاصر، بعد أن كان مئات الآلاف من الثوار الأحرار في دول مختلفة يفترشون الطرقات لإسقاط هذه الحكومات الفاسدة، ويحاربون أي قانون للطوارئ. اليوم بدوافع ومبررات مختلفة لم يعد لهم مكان إلا بيوتهم، تحول جدرانها بينهم وبين حقهم في ممارسة المواطنة الفاعلة، فهل تعمل الحكومات مستقبلاً على سن قوانين صارمة تمنع جميع أشكال التجمعات تحت شعارات صحية وأعذار تحمي الشعب من انتشار الأوبئة؟
الكثير من الآراء أصبحت تتحدث عن أهمية النظام السياسي المركزي في الصين، وكيف أنه ساهم بسيطرته الكاملة على جميع مفاصل الدول بتخفيف انتشار الفيروس، وأنه قد يصلح بديلاً لأنظمة ديمقراطية عجزت أو فشلت في التعامل مع الوباء، متناسين تماماً تجارب ديمقراطية حرة كسنغافورة وكوريا الجنوبية استطاعت تحقيق نتائج سريعة لشفافيتها وجاهزيتها الدائمة وشعورها بالمسؤولية تجاه مواطنيها، وهو ما ينبغي التركيز عليه والضغط لأن يكون أي تغير باتجاهه، حتى لا نتحول لدول مركزية لا تضع قيمة الإنسان على رأس أولوياتها.
الاكتفاء الذاتي سيكون محل نقاش وتنفيذ بشكل كبير، ستعمل كثير من الدول والشركات على تصنيع وزراعة ما تحتاجه محلياً، وتخفيف الاعتماد على الخارج لتضمن عدم توقف الحياة وتأثرها في الأزمات الكبرى، وسيتم مراجعة الكثير من قوانين الاقتصاد العالمي الذي يتأثر بكل هزة تحدث، وسيتغير مفهوم الحدود بين الدول وربما يصبح السفر أصعب لفئات معينة، وستعمل الحكومات ما استطاعت على دعم الشركات المحلية للوقوف على أقدامها وحمايتها من أشباح الانهيار والإفلاس، وسيصبح واضحاً أهمية التعامل بالعملات الرقمية والمشفرة لتخفيف الاعتماد على النقد والبطاقات التي قد تحمل أسطحها فيروسات تنقل أي وباء قادم للبشرية.
عالم الأعمال
مئات المؤتمرات التي ألغيت أو تأجلت، وآلاف رحلات العمل التي لم يعد لها مكان في أجندات الشركات، واجتماعات كثيرة تشغل وقت العاملين تحولت لرسائل الكترونية أو اجتماعات افتراضية، والكثير من الأعمال تحولت للعمل من المنزل، أو توقفت بسبب فيروس لا يُرى إلا أثره المدمر مرحلياً، كل هذا قد يغير رأي المسؤولين في جدوى كثيرٍ من تفاصيل العمل التي لا داعي لها، وإعادة توزيع ميزانيات المؤسسات والشركات لتكون في بنود أكثر أهمية وفائدة، وقد تساعد نتائج هذه الفترة المؤقتة في سن قوانين جديدة بالتعاون مع اتحادات العمل والحكومات لتطوير سياسات مطورة تجعل العمل عن بعد جزءاً من نظام العمل المتعارف عليه والذي قد يقضي على ظلم كثير من أصحاب العمل الرأسماليين. الكثير من المعاملات الحكومية، والبيروقراطيات القاتلة وزيارات البنوك الغير ضرورية ستنعدم الحاجة للتواجد شخصياً لإكمالها، وستجري عبر شبكة الإنترنت وتطبيقات الهاتف المحمول موفرة الكثير من الوقت والجهد.
ستتأثر سلباً بالتأكيد مئات الآلاف من الشركات، وربما يفقد الملايين حول العالم أعمالهم بسبب الأزمة الاقتصادية الناتجة عن كورونا، وستسنح الفرص للاستغناء عن الكثير من الطاقات البشرية، واستبدالها بالآلات أو أنظمة الأتمتة الالكترونية، ولكن في المقابل سيكون هناك حاجة في المستقبل القريب لوظائف جديدة لمجالات مستحدثة، وهو ما سيفرض على الفئات العاملة في هذه الفترة تطوير مهارات جديدة، ومرونة في التعامل مع سوق العمل في المستقبل.
التكنولوجيا والبيانات الضخمة
ستكون قطاعات التكنولوجيا والبيانات الضخمة من أكبر الرابحين بعد انتهاء هذه الأزمة، وسيكون هدف جميع الحكومات والشركات جمع أكبر كم من المعلومات حول حياة الأفراد للتأكد من أنهم لا يشكلون أي خطر صحي، ستنتشر الكاميرات الحرارية في المطارات ومراكز التسوق وقاعات المؤتمرات وأماكن التجمعات الضخمة، وقد تكون المعيار الأساسي الذي سيحدد إمكانية تواجدك في تلك الأماكن من عدمه. شركات الطيران والتأمين الصحي ستطور الكثير من التطبيقات التي تجمع المعلومات عن صحتك وأنشطتك الجسدية والحيوية، وتراقب أماكن تواجدك، وتحلل قربك من الأشخاص المصابين بأمراض معدية، وستعمل خوارزميات معقدة على تحليل تلك المعلومات الضخمة وتحدد إمكانية استفادتك من مزايا دون أخرى!
فوبيا الخوف من التجمعات ستقوي أنظمة التواصل عن بعد، وستصبح جزءاً أساسياً من حياة الناس، بدءاً من اعتمادها في أنظمة التعليم في المدارس والجامعات، واستبدالها لكثير من حصص الرياضة التي يمكن أن تمارس من المنزل، ويمكن أن تستبدل حاجة المرضى للذهاب إلى المستشفيات لإجراء المراجعات الروتينية مع الأطباء. كما وستزدهر أكثر أنظمة الطلب عن بعد وتطبيقات التجارة الالكترونية والأعمال المتعلقة بها، لتسهل حياة الناس وتقلل من التواجد والاحتكاك في الأسواق.
الحياة اليومية الاجتماعية
البقاء في المنزل لفترات طويلة سيجعل الكثير يغيرون العادات المرتبطة بالثقافة الاستهلاكية، سيقل الطعام في الخارج ويعتمد الناس على إعداد الوجبات في منازلهم، سيكون كثير من الناس أوعى بالطرق الصحية التي تعمل على تقوية مناعتهم وحمايتهم من الأمراض، سيتخفف الناس من الأنشطة الاجتماعية التي ترهق كاهلهم وتضيع أوقاتهم باعتبارها واجبات اجتماعية، سيمارس المهتمون بالصحة أنشطتهم الرياضية في الطبيعة والمساحات المفتوحة، وسيقللون من التواجد في الصالات الرياضة المزدحمة، وسيتغير مفهوم استخدام المساحات العامة وستصبح أكثر نظافة، وربما أقل اكتظاظاً بالناس، وستتغير كثير من وجهات وعادات السفر لتكون متركزة في الأماكن التي توفر معايير سلامة عالية.
فترات العزلة والخلوة ستشعرك بأهمية الوقت وتنظيم الحياة، ستجعلك أكثر وعياً بنفسك وحاجاتها، ستمنحك الكثير من الوقت لتمارس هواياتك بعيداً عن صخب العالم، وتوفر لك مساحة التعلم مدى الحياة، أما التباعد الاجتماعي فسيغنيك عن كثير من العلاقات الغير ضرورية أو السامة، وسيخفف من وهج المؤثرين الزائف، وسيُبقي بقربك من يغني حياتك بالأثر الطيب.
الحفاظ على الحرية والخصوصية
كل ما سبق يدعونا للتفكر أكثر في حرياتنا الشخصية وحيزها في الفضاء العام، وما قد يتم حظره تحت ذريعة الصحة العامة، مع أخذ الحذر من قوانين جديدة قد تسن لانتهاك خصوصيات قد نجبر على إتاحتها لأطراف متعددة لتيسير العيش والاستفادة من الكثير من الخدمات. سيكون هناك معارك شرسة يجب أن نستعد جميعاً لها للحفاظ على حرياتنا العامة وحماية خصوصية الكثير من المعلومات التي قد تباع وتشترى، ليكون هدف القوانين الحفاظ على الصحة لا انتهاك الحريات وقولبة شكل الحياة مستقبلاً.
الأحداث الصغيرة تُحدث بعض التغييرات، أما الكوارث الكبرى فتُغير مجرى الحياة للأبد، والفترة الأخيرة قدمت دروساً كثيرة للبشرية قد تجعلها أكثر إنسانية أو أكثر توحشا. ربما نكون في المنطقة العربية بعيدين عن التأثير فيما سيتغير، ولكن بالتأكيد سنكون جزءاً منه، وسنتأقلم أو نضطر للتأقلم كما حدث مع كل التحولات السابقة، ولكن هي فرصة لنكون أكثر وعياً بالمستقبل القادم، أن نُعلي قيمة الإنسان وصحته وسلامته فوق كل اعتبار، لنحقق التكافل في مجتمعاتنا والتوازن في حياتنا، وأن لا ننجر وراء كل الطروحات التي تدعو لعزل الناس لسهولة السيطرة عليهم.
فلنطرح السؤال التالي على أنفسنا، ماذا لو كان ما بعد كورونا هو أكبر تجربة اجتماعية لتغيير وجه العالم مرة أخرى؟